الجمعة، يونيو 12، 2009

كليشيه أربعيني قديم


ذات صباح، قامت أجهزة الموساد باغتيال عماد مغنية في انفجار مدوي هز دمشق.. لم يكن قد سمع اسمه من قبل، ولكن بعد ساعات عرف أنه قيادي بارز بحزب الله وأن هذا الحادث سوف يهز حياته وقلبه وقاربه.. كان قد ضجر بمدينته ضجر ثائر قديم بمعاهدة سلام جائرة.. يقولون عنها مدينة الأشباح.. سبعة دوارات (ميادين)، وحكومات تتعاقب على ملك واحد، بلا “عجلة سير” أو “وسط بلد” أو “مقهى مثقفين”.. في المساء دعاه صديقه سمير للسهر في مقهى “بونيتا”، كما يدعوه سمير “أحد خمسة مقاهي نتناوبها على ثلاث طلعات بالأسبوع”. كان على وشك الرفض والسهر كعادته مع كتاب في المنزل على تنويعات سيمون شاهين لمشرقة الجاز ولكن عودة زوجته مبكرا للمنزل أثنته عن ذلك.. قبل نهاية السهرة بقليل دخلت فتاة إلى المقهى تحتمي من الأمطار بشال فلسطيني وتمسك بحقيبة يد مطرزة بخيوط “نابلس”، مدينته التي لم يرها أبدا.. سلمت على الموجودين والتفتت إليه ببدائية شديدة وابتسامة كشفت غمازاتيها “وأنت اسمك إيه؟”
كانت قد أتت إلي بلدته في الصباح للمرور إلى سوريا عبر الحدود البرية.. ولكن السلطات السورية آثرت أبعاد الصحافيين عن الأحداث فاضطرت لمبيت ليلتها في عمان. سألها عن الحقيبة فقالت “من غزة.. أنا لسه راجعة من هناك”.. انتبهت حواس الثائر القديم ودخلا في حوار حول فتح وحماس والجبهة الشعبية والحصار لم يلحظا معه انفضاض المكان.. قامت صديقتها لتوصلها فتدخل بحزم “أنا باوصلها” وهب واقفا لا يرفع عينيه عنها..
مرت ساعات لم يشعر بها وهو يدور الدوارات السبعة بسيارته على غير هدى.. وجد نفسه يسأل ويسأل ويحكي ويحكي.. حكي عن دور جده بالثورة العربية الكبرى ودار عند مدرسته الإعدادية، وبيوت أصدقاء هاجروا، ومحل “سندويشة الفلافل” المفضل، وبيت عائلته القديم الذي يحمل الآن رقم ٥٢ بالانجليزية ضمن حملة الملك لتحديث شوارع ولدت وعاشت بلا أسماء.. وعندما تعب من الحديث وجد نفسه يتوقف في أشارة حمراء “شو رأيك نروح ع مكتبي نشرب قهوة هناك؟”.. في مكتبه لحظ توترها الشديد أمام صورة امرأة بابتسامة شاحبة وطفلين.. قال ببساطة “زوجتي”.. “لم أكن أعرف انك متزوج”.. توتر للحظات “ظننت أن صديقتك أخبرتك”.. قالت مستنكرة “متى؟ التقيتك اليوم فقط ولم تتركني مع صديقتي لحظات”.. غاص قلبه في معدته “أنها… مريضة منذ ٧ سنوات. نعيش صورة الحياة.. لا أستطيع التخلي عنها وبالكاد بيننا حديث”. أكملت قهوتها ورحلت.. وظل شاردا لأيام.. بدت له البلدة أكثر ضيقا ووحشة.. بعد عدة أيام من التردد والقوقعة بعث لها برسالة “أريد أن أعرفك أكثر”.. فوجئ ببدائية الرد “تعالى”.. حزم حقائبه!
في مسرح الجمهورية كان وجيه عزيز يغني له وحده “من حقنا نحلم ولو كده وكده“.. خلال أيام خفت شخيره تدريجيا حتى اختفى، كما تخلص نهائيا من عضاضة الأسنان المطاطية التي عاش لسنوات يجز عليها أثناء النوم ليتجنب الصداع.. ولأنه “باشمهندس” كما كانت تناديه دائما فقد أعاد تخطيط “البيت”.. أمضوا أياما بين بائعي المؤن في العتبة والأخشاب في شارع الجيش و”تبعون الطوب” في البساتين.. أغلقوا الباب وشرعوا في البناء على أنغام فيروز بدون خطوط حمراء.. وبعد شهور توقف البناء فجأة..
بدأ عمله في الانهيار لكثرة غيابه.. واكتشف فجأة أنه عاد بشراهة الى التدخين الذي كان قد أقلع عنه قبل لقائها بشهرين، يوم أتم الأربعين.. ألحت عليه مرارا عدم الانجراف بالدخان وتجاهلها.. يعرف نفسه جيدا كما تعرفه زوجته “أنت لا تقف على أعتاب التجربة.. بل تخوضها للنهاية”.. غاب عنها أسبوعين اقلع فيهما عن التدخين مرة أخرى وأعاد الالتفات إلى العمل.. ولكنها أرسلت له طردا أتى به على “ملا وجهه”.. خصلة طويلة من شعرها وفرشاة أسنان مستعملة مرتان.. كانت تبدع قتل المسافات.. قبعت بكل ما يمس حواسه.. فانلاته مغرقة بعطرها، هاتفه المحمول هاتفها، شفرات حلاقته منها، موسيقى الصباح بسيارته، جواربه، “بابونج” البيت، فنجان القهوة بالمكتب.. وعندما ضاقت يهما شوارع بلدتها أيضا أخذها إلى قارة ثالثة واستأجرا سيارة وسط الغابات.. ضبطا الكاميرا فوق أحد الأشجار وصعدا في قبلة طويلة فوق سقف السيارة لالتقاط “أيقونة الرحلة”..
ذات مساء، أعلنت إسرائيل الحرب على غزة.. كان يجلس مع سمير في “بونيتا” يخطون حملة مقاطعة ووقفات احتجاجية.. همست في أذنه “مفاجأة”.. حمت رأسها من الأمطار بالشال الفلسطيني وحمت قلبها بغمازاتيها.. “جئت أودعك قبل أن أذهب إلى غزة.. أراك حين أعود؟”.. “لا أعتقد.. وعموما أفضل ألا تذهبين فالوضع هناك خطر جدا”.. “ولم لا؟”.. “نفترق الآن أفضل.. فحركة شوارع المدينة أيقظتني”.. بهدوء، أكمل حواره مع سمير.. وفي طريق عودته ابتاع لزوجته علبة الدواء وعلبة دخانها، كعادته..
هذه الحدوتة مهداة إلى الراوي.. ويمكن قراءتها مع موسيقى وجيه عزيز “ناقص حنة” ويفضل فيروز ”حبوا بعضن” ..
مدونة نورا يونس

ليست هناك تعليقات: